القصة أو الحکاية من أقدم الأنواع الأدبية التي ربما سبقت الشعر وتحتل مکانا واسعا بين آداب الشعوب. ولم يکن العرب منذ أقدم العصور إلا کغيرهم من الأمم، يرددون الحکايات ويتمتعون في مجالسهم بسماعها ولاشک أن القصص تصور العادات والتقاليد والآراء والمعتقدات للذين يقصون تلک القصص أو الذين يحکونها ناهيک عما يعتريها من دقائق خاصة قلما توجد في باقي الأنواع الأدبية.
ولقد ظهر في القرن الرابع الهجري نوع أدبي جديد يدعی بالمقامات يمکن القول أن جوهرها تلک القصص والحکايات إلا أن مبدعيها تعمدوا التصنيع والتأنيق فيها. وهذه المقامات تضم ألحکايات والنوادر والمطايبات، بينما لاتخلومن جوانب تاريخية وحکمية وأدبية.
التمهيد:
شهد النثر العربي منذ أقدم العصور إلی يومنا هذا تقلبات کثيرة تجلت في مختلف الأساليب والفنون وخلف نتاجات أدبية قيمة، إلا أن من يتتبع نتاجات الأقدمين ومؤلفاتهم نظما ونثرا يری أنهم عنوا بالفنون الشعرية المختلفة عناية خاصة في نتاجاتهم التي تتناول التراث الشعري بين الشرح تارة والنقد تارة أخری. وخير دليل علی هذا الرأي هوالکتب المصنفة في مجال الشعر تحت العناوين المختلفة کـ"نقد الشعر" و"طبقات الشعراء" بالإضافة إلی اعتماد النحويين علی الشواهد الشعرية ما استطاعوا إليه سبيلا في شرح قواعدهم النحوية.
تعد المقامات إحدی الفنون النثرية التي يبالغ فيها الاهتمام باللفظ والأناقة اللغوية وجمال الأسلوب بحيث تتعدی الشعر في احتوائها علی المحسنات اللفظية إلا أنها لم تحظ اهتمام الأدباء والنقاد وهذا لايعني أنهم أهملوا هذا الفن کليا بل المقصود هوأن النثر بشکل عام والمقامات علی وجه الخصوص نالا أقل اهتمام بالمقارنة إلی ما ناله الشعر العربي من علوالشأن.
يهدف هذا المقال إلی دراسة المعنيين اللغوي والأدبي للمقامة مبينا عناصرها الفنية وکيفية نشأتها وتطورها والغور في خصائصها ودراسة ما يميزها عن القصة وأخيرا التعريف بأهم أصحابها.
إن أول من قام بصياغة هذا النوع الأدبي هوبديع الزمان الهمذاني (357هـ - 398هـ) الذي يعد مبدع المقامات ( البستاني، أدباء العرب، ج 2، ص 389) غير أن هناک تباين في الآراء بين النقاد والباحثين في اعتبار الهمذاني مبدعا لهذا الفن الأصيل بحيث يعتقد جرجي زيدان أن بديع الزمان الهمذاني اقتبس أسلوب مقاماته من رسائل إمام اللغويين، أبي الحسين أحمد بن فارس (390هـ). ( المصدر نفسه، الصفحة نفسها. ) بينما يعتبر الدکتور زکي مبارک مقامات الهمذاني مشتقة من أحاديث بن دريد (321هـ) ويری بين مقامات الهمذاني وأحاديث بن دريد مشابهات قوية من حيث الحبکة القصصية واستخدام السجع. (مبارک، النثر الفني، ج 1، ص 197)
المقامات
المقامات في اللغة جمع المقامة؛ والمقامة هي المجلس. والمقصود بالمقامة فی الأدب «قصة تدورحوادثها في مجلس واحد. » (البستاني، أدباء العرب، ج 2، ص 389).
المقامة قصة وجیزة أوحکایة قصیرة مبنیةعلی الکدیة (الاستعطاء) وعناصرها ثلاثة:
1) راویة ینقلها عن مجلس تحدث فیه.
2) مکدٍ (بطل) تدور القصةحوله وتنتهي بانتصاره فی کل مرة.
3) ملحة (نکتة)، (عقدة) تُحاک حولها المقامة؛ وقد تکون هذه الملحة بعیدة عن الاخلاق الکریمة وأحیاناً تکون غثّة أوسَمحة وتبنی المقامة علی الإغراق في الصناعة الفظیة خاصة والصناعة المعنویةعامة.
تحدر فن المقامات
لیس فیما أثر عن العرب مقامات سابقة علی مقامات بدیع الزمان الهمذاني (358ـ398 هـ)، فهومن أجل ذلک يعتبر مبدع هذا الفن. علی أن نفراً من الأدباء کابن عبد ربه وابن قتیبة والحصري، یفضلون أن یقولوا إن بدیع الزمان اشتق فن المقامات من فن قصصي سابق. (المصدر نفسه، الصفحة نفسها، بتصرف. ) ویرید الدکتور زکي مبارک أن یثبت أن مقامات بدیع الزمان مشتقّة من "أحادیث ابن درید"؛ وابن درید (321 هـ) هذا کان راویة وعالماً ولغویّاً وقد عنی بروایة أحادیث عن الأعراب وأهل الحضر. ( مبارک، النثر الفني، ج 1، ص 197) ولاریب في أن بین أحادیث ابن درید وبین المقامات شبهاً قویاً من حیث القصص واستخدام السجع، ولکن هناک أیضا فروقا کبیرة في الصناعة وفي العقدة وفي وجود بطل المقامات وهوالمکدي، وفي انبناء المقامة علی الکدیة وعلی الهزء من عقول الجماعات مع إظهار المقدرة في فنون العلم والأدب، إلی ماهنالک من خصائص يعتريها فن المقامات.
بالإضافة إلی أن هذا لایعني أنّ بدیع الزمان لم یطلع علی أحادیث ابن درید أوعلی مارُوي عن العرب من قصص وأحادیثَ وأسمار، ولکن الفرق بین ما روي عن العرب من الأحادیث وبین المقامات من حیث الغایة والأسلوب کبیر جداً. وعلی کل فإن بدیع الزمان إن لم یکن مبدع فن المقامات، فإن مقاماته أقدم ماوصل إلینا من هذا الفن الأدبي الرائع.
خصائص المقامات
وللمقامات خصائص نستعرضها بشیء من التبیان لأوجهها:
أولا- المجلس: یجب أن تدور حوادث المقامة في مجلس واحد لاینتقل منه إلا في ماشذَّ وندر (وحدة مکان ضیقة).
ثانيا- الراویة: ولکل مجموع من المقامات راویة واحد ینقلها عن المجلس الذي تحدث فیه.
ثالثا- المکدي: ولکل مجموع من المقامات مکد واحد أیضاً أوبطل، وهوشخص خیالي في الأغلب، أبرز میزاته أنه واسع الحیلة ذرب اللسان ذومقدرة في العلم والدین والأدب وهوشاعر وخطیب، یتظاهر بالتقوی ویضمر المجون، ویتظاهر بالجد ویضمر الهزل وهویبدوغالباً في ثوب التاعس البائس إلا أنه في الحقیقة طالب منفعة.
وتنعقد المقامة دائماً بأن یجتمع الراویة بالمکدي في مجلس واحد ویکون المکدي دائماً متنکراً، ولذلک قلما یفطن الراویة لوجوده ـ إذا کان قد سبقه إلی المجلس ـ أولحضوره إذا حضر بعده. وتنحل عقدة المقامة بأن ینکشف أمر المکدي للراویة علی الأقل أویکشف المکدي أمره للراویة (وأحیاناً للحاضرین) في الأغلب ولایکشف المکدي أمره إلابعد أن یکون قدنال من أهل المجلس مالا أوثیابا، بعد أن استدر عطفهم. وکثیراً ما یعلم أهل المجلس أن المکدي قد خدعهم وسلبهم، ولکنهم لایضمرون له شرا لأنه أطربهم أوسلاهم أوأفادهم.
رابعا- الملحة (النکتة أوالعقدة): وهي الفکرة التي تدور حولها القصة المتضمنة في المقامة، وتکون عادة فکرة طریفة أوجريئة، ولکنها لاتحثّ دائماً علی الأخلاق الحمیدة، وقد لاتکون دائماً موفقة.
خامسا- القصة نفسها: کل مقامة وحدة قصصیة قائمة بنفسها، ولیس ثمة صلة بین مقامة وأخری إلا أن المؤلف واحد والراویة واحد والمکدي واحد، وقد تکون القصص من أزمنة مختلفة مُتباعدة وإن کان الراویة واحداً.
سادسا- موضوع المقامة: موضوعات المقامات مختلفة منها أدبي ومنها فقهي ومنها فکاهي و منها حماسي، ومنها خمري أومجوني، وهذه الموضوعات تتوالی علی غیر ترتیب مخصوص عندبدیع الزمان. أما الحریري (فیما بعد) فالتزم أن تکون الموضوعات متعاقبة علی نسق مخصوص وقد تکون المقامة طویلة أوقصیرة.
سابعا- اسم المقامة: واسم المقامة مأخوذ عادة من اسم البد الذي انعقد فیه مجلس المقامة نحو: المقامة الدمشقیة، التبریزیة، الرملیة (نسبة إلی الرملة بفلسطین)، المغربیة، السمرقندیة، البلخیة، الکوفیة، البغدادیة، العراقیة، الخ. . . . أومن المحلة التي تنطوی علیها المقامة نحوالمقامة الدیناریة، الحرزیة، الشعریة، الإبلیسية، الخمریة الخ. . . .
ثامنا- شخصیة المقامة: إن الشخصیة التي تبدوفي المقامة لیست شخصیة المکدي ولکنها شخصیة المؤلف وتنبني هذه الشخصیة علی الدرایة الواسعة بکل شیء يطرقه المکدي، أوالمؤلف علی الأصلح، فهوواسع الاطلاع علی العلوم العربیة خاصة، بصیر بالفنون الأدبیة من شعر ونثر وخطابة، حاد الذهن قوي الملاحظة في حل الألغاز وکشف الشبهات، مرح طروب في اجتیاز العقبات وسلوک المصائب.
تاسعا- الصناعة في المقامات: فن المقامات فن تصنیع وتأنق لفظي (وخصوصاً عند الحریري) فهناک إغراق في السجع وإغراق في البدیع من جناس وطباق، وإغراق في المقابلة والموازنة وفي سائر أوجه البلاغة حتی ما لایدخل في باب البلاغة علی وجه الحصر؛ کالخطبة التي تقرأ طرداً وعکساً والخطبة المهملة (التي لانقط فیها) أوالتي تتعاقب فیها الأحرف المهملة والأحرف المعجمة (المنقوطة) وما إلی ذلک.
عاشرا- الشعر: المقامة قصة نثریة ولکن قد یتخللها شعر قلیل أوکثیر من نظم صاحبها علی لسان المکدي، أومن نظم بعض الشعراء، فيما یروی، علی لسان المکدي أیضاً، وقدیکون إیراد الشعر لإظهار المقدرة في النظم أولاظهار البراعة في البدیع خاصة عند الحریري. ( فروخ، تاريخ الأدب العربي، ج 2، صص 412- 415، بتصرف. )
ویتبع القصص والمقامات فنّ الفکاهة وهي روایة الحکایة في حال من المرح مع الاشارة إلی ما یستطیبه الناس عادة من اللهووالجنس والهزؤ والإضحاک والإطراف. والمقامات نفسها مملوءة بالفکاهة، وتظهر الفکاهة في الشعر أیضاً وتکون في الشعر لفتة بارعة أوملحة نادرة أونکتة صائبة أوتعبیراً جدیداً طریفاً، وقد تکون عرضاً لأمور لاتقتضي الإنسان تفکیراً بل یأخذ الإنسان منها بظاهر القول هوناً وفي هذا الباب أخبار المکدین (المتسولین) والطفيلیین، ومثل ذلک الأحاجي، وهي أسئلة علی غیر المنهاج المنطقي تحتاج في الإجابة التي نباهة وذکاء أکثر مما تحتاج إلیه من العقل والمعرفة. وفي المقامات شيء کثیر من هذا کله مبني علی التوریات وراجع إلی أحوال مفردة، وهي المسمیّ "ألغازاً" فمن الفکاهة العادیة قول ابن لَنکَك:
لاتَخدَعَنکَ اللّحی والصّور
تسعة أعشار مَن تری بَقَر
ومن الألغاز سؤال في مقامات بدیع الزمان هو: أي بیت (من الشعر) أولّه یغضب وآخره یلعب؟ وجواب هذا السؤال الملغز: هوقول عمروبن کلثوم:
کأنّ سیوفنا منّا ومنهم
مخاریق بأیدي لاعبینا!
(لأنّه یبدأ بالکلام علی السیوف ـ وهی من آلات الحرب ـ ثم ینتهي باللعب بالمخاریق، والمخراق خرقة ملفوفة یتضارب بها الصبیان).
ویدخل في هذا الباب کتب الجدال والمناظرات والخصومات، کما نجد عند أبي حیّان التوحیدي وفي کتب علماء الکلام من الأشعریة والمعتزلة، ومانراه في کتب التوحید وأصول الدین؛ کما یدخل فیه الکتب التي تعرض الآراء والمذاهب کرسائل إخوان الصفا وجمیع الکتب المؤلفة في فنون السلوک والعلم وفي علوم العربیة من اللغة والنحووالنقد.
روّاد المقامات
کان بدیع الزمان الهمذاني (357 هـ 398 هـ) والحریري (446هـ 516هـ) من أبزر کتاب المقامات في العصر العباسي وتتناول السطور القادمة أهم السمات الأدبية لدی الأديبين بإيجاز بالغ:
1- بديع الزمان الهمذاني (357هـ 398هـ ) ومقاماته: إن مقامات بدیع الزمان قصار في الأغلب وفیها فصاحة وسهولة ووضوح إلی جانب الدعابة والمرح والتهکم وبدیع الزمان حسن الابتکار قل أن تجد له مقامتین في معنی واحد، وهویجید في مقاماته السرد والوصف الحسّي والتحلیل ویحسن دراسة الطبائع وتصویر المعائب وعرض مساویء المجتمع، غیر أنّه لایقصد إلی إصلاح هذه المساویء بنصح أوبردع، وإنمّا غایته التهکّم بأصحابها وإطراف الآخرین بتصویرها واستعراضها، وهوکثیر الاحتقار للناس.
وأسلوب بدیع الزمان في مقاماته خاصة، حلوالألفاظ سائغ الترکیب جمیل الوصف کثیر الصناعة المعنویة (في الاستعارات والکنایات والتوریات خاصة) من غیر تکلّف ولا إغراق في السجع.
وللمقامات الخمسین التي بدأ بدیع الزمان کتابتها منذ عام 375 هـ راویة واحد هوعیسی بن هشام ومکد (بطل) واحد هوأبوالفتح الإسکندري (نسبة إلی الإسکندریة التي هي قرب الکوفة علی الفرات) وهما شخصیتان تاریخیتان.
ومن أشهر مقاماته مقامتین؛هما المقامة المضیریة والمقامة البشریة. أما المقامة المضیریة فتظهر فیها براعة البدیع في الوصف ودقة التصویر، علی شيء کثیر من السخر وخفة الروح. أما الأخری البشریة، فهي التي وفق بها بدیع الزمان لاختراع شاعر جاهلي تبنّاه التاریخ من بعده، ألاوهوبشر بن عوانة العبدي. (البستانی، أدباء العرب، ج 2، صص 390ـ394 بتصرف. )
2- أبوالقاسم الحريري (446هـ 516هـ ) ومقاماته:یبدأ الحریري مقاماته بإسناد الکلام إلی روایتها الحرث بن همّام، ولکنه لایقصتر کالبدیع علی قوله: (حدثنا) بل یمیل إلی التغییر في بدء کل مقامة فینتقل بین (حدّث) و(روی) و(حکی) و(أخبر) و(قال). وکان مکدي (بطل) مقاماته هوأبازید. (البستانی، أدباء العرب، ج 2، ص 428)
والحریري في مقاماته أکثر تعلقاً بالحواضر من بدیع الزمان، فما یکاد یخرج إلی البادیة إلا في واحدة منها أواثنتین، ومقاماته في الغالب أطول من مقامات أستاذه بید أن طولها لایعود علی اتساع الفن القصصي فیها، وإنما علی اجتماع خبرین في مقامة واحدة. أوعلی فیض الألفاظ، وکثرة المترادفات، ومعاقبة الجمل علی المعانی. أوعلی الإکثار من الشعر، وفیه القصائد التي يشرح بها أبوزید أحواله، ویقص أخباره.
وللحریري لغة متینة، قصیرة الجمل یقطعّها تقطیعاً موسیقیاً، فما تتعدی جملته الکلمتین أوالثلاث، قلّما زادت فبلغت الخمس أوالست وهوفی إنشائه بادئ الصنعة، ظاهر التکلّف، یتعمد الغریب، ویسرف في استعماله، ویفرط في اصطناع المجاز والتزیین حتی تجف عبارته ویقل ماؤها ویعسر مساغها.
الخاتمة والنتيجة: إن هذا المقال ألقی الضوء علی المقامات التي تعتبر جانبا غضا ثريا من النثر العربي الذي له عراقة في تاريخ الأدب العربي وتناول المعنيين اللغوي والأدبي للمقامات کما تحدث عن نشأة هذا الفن وتطوره واقفا عند خصائص المقامات وقوفا متأملا وأخيرا تحدث عن رواد المقامات وهما الهمذاني والحريري.
وتجدر الإشارة إلی أن هذا الفن فن عربي أصيل يستحق اهتماما أکثر من ذي قبل من جانب الباحثين والدارسين والأدباء ليعرفوا بذلک الجيل الجديد جانبا من جمال الأدب العربي بمناهله الثرية وتراثه الضخم.
قائمة المصادر والمراجع:
1- البستاني بطرس، أدباء العرب في الأعصر العباسية، دار الجيل، بيروت – لبنان، طبعة جديدة ومنقحة، لاتا.
2- الحريري أبومحمد القاسم بن علي، مقامات الحريري، دار الفکر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت – لبنان، الطبعة الأولی، 2007م.
3- فروخ عمر، تاريخ الأدب العربي، دار العلم للملايين، بيروت – لبنان، الطبعة الخامسة، 1985م.
4- مبارک زکي، النثر الفني في القرن الرابع، مطبعة دار الکتب المصرية، القاهرة، الطبعة الأولی، 1934م.
5- الهمذاني أبوالفضل بديع الزمان، مقامات بديع الزمان الهمذاني، شرح الأستاذ محمد عبده، المطبعة الکاتوليکية، بيروت – لبنان، الطبعة الثالثة، 1924م.
نموذج من المقامات
المقامة السجستانية
حَدَثَنَا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ: حَدا بِي إِلى سِجِسْتَانَ أَرَبٌ، فَاقْتَعَدْتُ طِيَتَّهُ، وَامْتَطَيْتُ مَطِيَّتَهُ، وَاسْتَخَرْتُ الله فِي العَزْمِ جَعَلْتُهُ أَمَامِي، وَالْحَزْمِ جَعَلْتُهُ إِمَامِي حَتَّى هَدَانِي إِلَيْهَا، فَوَافَيْتُ دُرُوبَهَا وَقَدْ وَافَتِ الشَّمْسُ غُرُوبَهَا، وَاتَّفَقَ المَبِيتُ حَيْثُ انْتَهَيْتُ، فَلَمَّا انْتُضيَ نَصْلُ الصَّبَاحِ، وَبَرَزَ جَيْشُ الْمِصْبَاحِ، مَضَيْتُ إِلى السُّوقِ أَخْتَارُ مَنْزِلاً، فَحِينَ انْتَهَيْتُ مِنْ دَائِرَةُ الْبَلَدِ إِلَى نُقْطَتِهَا، وَمِنْ قِلادَةِ السُّوقِ إِلى وَاسِطَتِهَا، خَرَقَ سَمْعِي صَوْتٌ لَهُ مِنْ كُلِّ عِرْقٍ مَعْنىً، فَانْتَحَيْتُ وَفْدَهُ حَتَّى وَقَفْتُ عِنْدَهُ، فَإذَا رَجُلٌ عَلى فَرَسِهِ، مُختَنِقٌ بِنَفسِهِ، قَدْ ولاَّنِي قَذَالَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: مَنْ عَرَفَني فَقَدْ عَرَفَني، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفني فأَنا أُعَرِّفُهُ بِنَفْسي: أَنَا با كُورَةُ اليَمَنِ وَأُحْدُوثةُ الزَّمَنِ أَنَا أُدْعِيَّةُ الرِّجالِ، وَأُحْجيَّةُ رَبَّاتِ الحِجالِ، سَلُوا عنِّي البِلادَ وَحُصُونَها، وَالجِبالَ وَحُزُونَها، وَالأوْدية وَبُطُونَها، وَالبِحارَ وَعُيُونَهَا، والخيلَ وَمُتُونَها، مَنِ الذَّي مَلَكَ أَسْوَارَها، وَعَرَفَ أَسْرَارَهَا، وَنَهَجَ سَمْتَها، وَوَلَجَ حَرَّتَهَا؟ سَلُوا المُلوكَ وَخَزَائِنَها، وَالأَغْلاقَ وَمَعادِنَها، وَالأُمُورَ وَبَوَاطِنَها، وَالعُلُومَ وَمَوَاطِنها، وَالخُطُوبَ وَمَغالِقَهَا، وَالحُروبَ وَمَضَايِقَهَا، مَنِ الذَّي أَخَذَ مُخْتَزَنَها، وَلَمْ يُؤَدِّ ثَمَنَهَا؟ وَمَنِ الذَّي مَلَكَ مَفَاتِحَها، وَعَرَفَ مَصَالِحَها؟ أَنَا وَاللهِ فَعَلْتُ ذلِكَ، وَسَفَرْتُ بَيْن المُلُوكِ الصِّيدِ، وَكَشْفُت أَسْتَارَ الخُطُوبِ السُّودِ، أَنَا وَاللهِ شَهِدْتُ حَتّى مَصارِعَ العُشَّاقِ، وَمَرِضْتُ حَتَّى لِمَرَضِ الأَحْدَاقِ، وَهَصَرْتُ الغُصُونَ النَّاعِماتِ، وَأَجْتَنَيْتُ وَرْدَ الْخُدُودِ الْمُوَرَّداتِ، وَنَفَرْتُ مَعَ ذَلِكَ عَنْ الدُّنْيَا نُفُورَ طَبْعِ الْكَرِيمِ عَنْ وُجُوهِ اللِّئَامِ، وَنَبَوتُ عَنْ الْمُخْزِياتِ نُبُوَ السَّمْعِ الشَّريفِ عَنْ شَنْيعِ الْكَلامِ وَالآنَ لَمَّا أَسْفَرَ صُبْحُ الْمَشِيبِ، وَعَلَتْنِي أُبَهةُ الْكِبَرِ، عَمَدْتُ لإِصْلاحِ أَمْرِ الْمَعَادِ، بإِعْدَادِ الزَّادِ، فَلَمْ أَرَ طَرِيقاً أَهْدَى إِلى الرَّشَادِ مِمَّا أَنْا سَالِكُهُ، يَرَانِي أَحَدُكُمْ رَاكِبَ فَرَسٍ، نَاثِرَ هَوَسٍ، يَقُولُ: هذاَ أَبُو الْعَجَبِ، لاَ وَلَكِّنِيَ أَبُو الْعَجَاِئبِ، عَايَنْتُهَا وَعَانَيْتُهَا، وَأُمُّ الْكَبَائِرِ قَايَسْتُهَا وَقَاسَيْتُهَا، وَأَخُو الاْغْلاَقِ: صَعْباً وَجَدْتُهَا، وَهَوْناً أَضَعْتُهَا، وَغَالِياً اشْتَرَيْتُهَا، وَرَخِيصاً ابْتَعْتُهَا، فَقَدْ واللهِ صَحِبْت لهَا الْمَواكِبَ، وَزَاحَمْتُ الْمَنَاكِبَ، وَرَعَيْتُ الْكَواكِبَ، وأَنْضَيْتَ الْمَراكِبَ، دُفِعْتُ إِلى مَكَارِهَ نَذَرْتُ مَعَهَا أَلاَّ أَدَّخِرَ عَنِ المُسْلِمِينَ مَنَافِعَهَا، وَلاَ بُدَّ لِي أَنْ أَخْلَعَ رِبْقَةَ هَذِهِ الأَمَانَة مِنْ عُنُقِي إِلَى أَعْنَاِقكُمْ، وَأَعْرِضَ دَوائِي هَذا فِي أَسْوَاقِكُمْ، فَلْيَشْتَرِ مِنِّي مَنْ لاَ يَتَقَزُّزُ مِنْ مَوْقِفِ الْعَبِيدِ، ولاَ يَأَنَفُ مِنْ كَلِمَةِ الْتَّوحِيدِ، وَلْيَصُنْهُ مَنْ أَنْجَبَتْ جُدُودُهُ، وَسَقَى بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ عُوُدُهُ.
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: فَدُرْتُ إِلَى وَجْهِهِ لأَعْلَمَ عِلْمَه فَإِذَا هُوَ وَاللهِ شَيْخُنَا أَبْو الْفتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ، وَانْتَظَرْتُ إَجْفَالَ النَّعَامَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ تَعَرَّضْتُ فَقُلْتُ: كَمْ يُحِلُّ دَوَاءَكَ هَذَا؟ فَقَالَ: يُحِلُّ الْكِيسُ مَا شِئْتَ، فَتَرَكْتُهُ وَانْصَرَفْتُ
المقامات هي عبارة عن حكايات قصيرة تَجمع بين شخصيَّتَين رئيسيَّتَين هما الرّاوي البورجوازي والمُتَسكِّع المُخادع والسارق. وهي مكتوبة بطريقة السَّجَع المخلوط أحياناً بأبيات من الشعر. وقد ظهر هذا الفن الأدبي في القرن العاشر واستمر حتى القرن التاسع عشر مُحقِّقاً بعض النجاحات. ويبدو أنه في الأصل قد أتى على يد المُؤَدَّبين من أُمناء الإدارة. وقد ابتدعه أبو الفضل أحمد بن الحسين الهمذاني (968-1008) فارسيّ الأصل، الذي أوصل المقامات إلى قمة كمال الأسلوب ونضارة الإلهام والتعبير، التي لن يرقى إليها أيٌّ من مُقلِّديه من بعده، بمن فيهم الحريري الذي حظيت مقاماته بشهرة لم تحظ بها مقامات الهمذاني. فالهمذاني هو الذي اخترع شخصيتَي الراوي الساذج والرجل الشعبي الماكر عديم الذمة. وقد أولى اهتماماً للأوساط الشعبية وطرق كلامها فأعطى مكاناً كبيراً للتسوُّل والمُتَسوِّلين. لا بل وخصص مقامة كاملة لكلام اللصوص. وقد كَثُر هذا الاهتمام بالسارقين والشَحّاذين في الأدب العربي، إذ نلاحظه لدى الجاحظ (توفي سنة 868) في كتابه حِيَل اللصوص على سبيل المثال، وفي العديد من حكايات ألف ليلة وليلة.
غير أن مقامات الحريري العراقي (1054-1122) الخمسين هي التي تتمتع بأوسع شهرة. وقد استلهم كاتبها من مقامات الهمذاني، كما استلهم شخصية المُتَسكِّع أبي زيد السَّرُوجي من شخصية سوريٍّ لجأ من شمال سوريا إلى العراق بعد استيلاء الصليبيين على سَرُوج، قال أنه قد عرفه شخصياً إذ كان الحريري رئيساً للعَسَس آنذاك. ويجول أبو زيد هذا في المشرق العبّاسي من بغداد إلى سمرقند ويلتقي بالكثير من الأشخاص ويخدعهم.
وقد ركَّز الحريري على شكل قصصه أكثر من تركيزه على محتواها. إذ أكثَرَ من الاستعارات والألغاز والتلاعب بالألفاظ مستخدماً الكثير من الكلمات النادرة، فأعطى لفن المقامات صبغة كلاسيكية وجَمَّده بعيداً عن أصله. وقد راجت مقامات الحريري خلال حياته ونُسخت منها أكثر من 700 نسخة. ثم انتشرت بسرعة في اسبانيا المُسلمة حيث قُلِّدَت أحياناً بلغات غير العربية. فترجمها يَهودا بن شلومو هاريزي (1165-1255) إلى اللغة العبرية وألَّف خمسين مقامة بعنوان "سِفِر تَحقِمُوني". كما قام يعقوب بن إليعازَر الطُلَيطِلي بكتابة عشر مقامات أخرى بعنوان "مِشاليم" (الأمثال). وفي الشرق الأوسط، في نهاية القرن الثالث عشر، قام عَبديشو، رئيس أساقفة نصيبين، بوضع نسخة سريانية للمقامات. وفي القرن الرابع عشر، كَثُر تقليد المقامات في المشرق والمغرب الإسلامييَن، لا بل واستُخدِم فن المقامات لطرح مواضيع دينية. وبقي هذا الفن على قيد الحياة حتى القرن التاسع عشر، حتى لدى الكُتّاب المسيحيين الناطقين بالعربية كاللبناني ناصيف اليازجي (1800-1871) الذي قلَّد المقامات تقليداً ناجحاً.
فهل ألهمت المقاماتُ الأدبَ الأوروبي يا هل تَرَى ؟ يُمكن في الواقع تقريبها من فنٍّ أدبيٍّ شاع في اسبانيا خلال عصرها الذهبي (القرن السادس عشر)، وهو فن الرواية التَّشَرُّدِيّة. لكننا نجهل إن كانت المقامات قد تُرجِمَت إلى اللاتينية أو إلى اللغة الرومية الشائعة في العصر الوسيط. إلاّ أن شخصية "بيكارو" الاسبانية تُشبه في الكثير من سِماتها شخصية أبي زيد السروجي. كما أن رواج هذه القصص الاسبانية يسمح لنا بافتراض تأثير المقامات عليها على نحو مباشر أو غير مباشر .
مقتبس