نشأته وحياته:
وُلِدَ عبد الله بن المقفع أو( روزبه بن داذويه) كما كان يسمى سنة 106 هجرية ، في قرية "جور" ببلاد فارس ، وكان أبوه قد تولى الخراج للحجاج بن يوسف الثقفي أيام إمارته على العراق ، فمد يده إلى أموال السلطان فضربه الحجاج ضرباً موجعاً حتى تقفعت يده ، فسُمِّيَ المقفع.
تثقف بالثقافة الفارسية ، وعرف الكثير عن آداب الهند واليونان ، ثم انتقل مع أبيه إلى مدينة البصرة حيث تشرَّب الثقافة العربية في ولاء "آل الأهتم" وهم قوم معروفون بالفصاحة والبلاغة ، وخالط الأعراب وأخذ عنهم مبادئ اللغة ، كما قرأ علي الشعراء والرواة واللغويّين المرموقين في عصره حتّي تمكّن من اللغة العربيّة وآدابها ، وكانت البصرة آنذاك مَجْمع رجال العلم والأدب ، ومربدها الشهير جامعة للأدباء والشعراء .
اشتهر في شبابه بسعة اطلاعه على آداب الحضارات الفارسية والهندية واليونانية بالإضافة إلى فصاحة بيانه العربي وسلاسة أسلوبه النثري ، ويسر له ذلك الاتصال بالأمراء والقواد والولاة ممن كانوا في أمس الحاجة إلى أمثاله في تولي وظائف الكتابة في دواوين الدولة.
ويعتبر ابن المقفع من الأدباء المخضرمين الذين عاصروا الدولتين الأموية والعباسية ؛ فعاش في ظل الأولى 25 عاماً تقلَّد فيها الكتابة ليزيد بن عمر بن هبيرة والي الأمويين على العراق من قِبَل مروان بن محمد آخر خلفائهم ، ثم كتب لأخيه داود بن عمر بن هبيرة . وعاش في ظل الثانية 16عاماً اتصل فيها بعيسى بن علي بن عبد الله بن عباس عم السفاح والمنصور ، وكان ابن المقفع لا يزال مجوسياً فأسلم على يديه وكتب له ولازمه ثم قتل بسببه .
ويروى أنه لما أراد أن يسلم ، قال له عيسى بن علي: ليكن ذلك بمحضر من القواد ووجوه الناس ، فإذا كان الغد فاحضر ، ثم حضر طعام عيسى عشية ذلك اليوم ، فجلس يأكل ويزمزم على عادة المجوس ، فقال له عيسى: أتزمزم وأنت على عزم الإسلام ، فقال ابن المقفع : أكره أن أبيت على غير دين.
أخلاقـــــــــــــــــه:
اشتهر ابن المقفع حتى قبل إسلامه بمتانة أخلاقه ؛ فكان كريماً ، عطوفاً ، عاشقاً لحميد الصفات ومكارمها ، شغوفاً بالجمال كما كان مؤمنًا بقيمة الصداقة ، وإغاثة الملهوف ، ومن الحكايات المشهورة التي تُروى عنه ، أن (عبد الحميد بن يحيى) كاتب الدولة الأموية الشهير ، اختبأ في بيت ابن المقفع بعد قتل مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية ، لكن رجال الدولة العباسية الناشئة توصلوا إليه ، ودخلوا عليهما بيت ابن المقفع ، وسألوهما: أيكما عبد الحميد بن يحيى؟ فقال كلاهما: "أنا" ولكن العباسيين عرفوا عبد الحميد وأخذوه إلى السفاح .
وكان رحمه الله شديد النبل والكرم ، متعهداً لذوي الحاجات ومقدراً للصداقة والصحبة ، يحمل نفسه على الأجدر والأنبل ، مجتهداً في وضع أسس إصلاح الراعي والرعية ، متمسكاً بآداب اللياقة ومتطلبات الذوق ، قال عنه الجاحظ : "كان جواداً فارساً جميلاً".
يروى عنه أن عيسى بن علي دعاه للغداء فأرسل إليه يقول: أعز الله الأمير لست اليوم للكرام أكيلاً لأني مزكوم ؛ والزكمة قبيحة الجوار مانعة من عشرة الأحرار..... ويعجب الناس بأدبه فيسألونه: من أدَّبَك.؟؟ فيقول: نفسي ؛ إذا رأيت من غيري حسناً أتيته ، وإن رأيت قبيحاً أبيته.
مقتلـــــــه:
خرج عبد الله بن علي عم المنصور على المنصور ، مطالباً بالخلافة ، ووقعت بينهما حروب ، انتهت بغلبة المنصور على عمه ، فهرب عبد الله بن علي خوفاً من المنصور ، وسعى عيسى بن علي في الأمان لأخيه فرضي المنصور وأمر عيسى كاتبه عبد الله بن المقفع بكتابة عهد الأمان ، فتشدد ابن المقفع في أخذ العهود والمواثيق على المنصور حتى كتب عبارة تقول: "وإن أنا نلت عبد الله بن علي أو أحدًا ممن أقدمه معه بصغير من المكروه أو كبير ، أو أوصلت لأحد منهم ضرراً، سرًّاً أو علانية ، على الوجوه والأسباب كلها تصريحاً أو كناية أو بجبلة من الجبل ، فأنا نفي من - محمد بن عبد الله - ومولود لغير رشدة ، ولقد حل لجميع أمة محمد خلعي وحربي والبراءة مني ، ولا بيعة لي في رقاب المسلمين ، ولا عهد ولا ذمة ، وقد وجب عليهم الخروج عن طاعتي ، وإعانة من ناوأني من جميع الخلق". فأسرَّها المنصور في نفسه ، وعزم على الإيقاع بابن المقفع ، ويروى أنه قال : أما من أحد يكفينيه ، فاغتنمها والي البصرة (سفيان بن معاوية) وكان حاقداً على ابن المقفع لخصومة شديدة وقعت بينهما ، وتلقف تهمة كانت شائعة في تلك الأيام وهي تهمة الزندقة ، رمى بها البعض عبد الله بن المقفع _وقد ثبتت براءته منها_ فقتله قتلة بشعة حيث قطع جسده قطعاً قطعاً ، ورماه في التنور ، وكانت آخر كلماته لسفيان بن معاوية : والله إنك لتقتلني ؛ فتقتل بقتلي ألف نفس، ولو قُتِل مائة مثلك لما وفُّوا بواحد.
آثـــــــاره:
خلَّف ابن المقفع آثاراً فكرية عظيمة الفائدة مثلت عصارة فكره وثمرة أدبه ترجم بعضها من لغاتها الأصلية وأبدع بعضها بقلمه ، ورغم غلبة ما ترجم على ما ألف إلا أن مؤلفاته جاءت جامعة مانعة في مجالها ، وربما زاد في الترجمة من ذات نفسه ما يضفي عليها قيمة وتألقاً ، مثال ذلك ما راج عند بعض الباحثين عن كتابه "كليلة ودمنه" من أنه هو مؤلفه ومبدعه ، أو على الأقل استفاد الفكرة ونسج على منوالها مستخدماً قصص الحيوان رمزاً لعرض أفكاره السياسية ومعتقداته الفكرية وآرائه الإصلاحية .
الكتب التي ترجمها:
كتاب "فدينامه" في تاريخ ملوك الفرس، كتاب "آبين نامه" في عادات الفرس ونظمهم ومراسم ملوكهم، كتاب "التاج" في سيرة أنوشروان، وكتاب "الدرة اليتيمة والجوهرة الثمينة" في أخبار السادة الصالحين، كتاب "مزدك"، كتاب "قاطينورياس" في المقالات العشر، كتاب "باري أرميناس" في العبادة، كتاب "أيسافوجي" أو المدخل لفورفوريوس الصوري وكتاب "أنا لوطيقا" في تحليل القياس .
ومن مؤلفاته:
رسالة "الصحابة" وليس يعني بها صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما هو المشهور في استعمال الكلمة ، وإنما عنى صحابة الولاة والخلفاء والأمراء ، وهي رسالة عظيمة النفع جليلة الفائدة تناول فيها ابن المقفع نظام الحكم ووجوه إصلاحه ، متحدثاً فيها عن الأنظمة التي يجب أن تراعي عند النظر إلى( القضاء والخراج والجند) ، طارحاً آراءه السياسية الجريئة في كيفية إدارة الدولة الإسلامية المترامية الأطراف من خلال إصلاح حال المجتمع ورفع مستوى الجند مع منعهم من تولي الشؤون المالية والمدنية ، ووضع الأسس الكفيلة بضبط عائدات الخراج ، ووضع ما يشبه القانون القضائي حتى لا تترك الأحكام لاجتهادات القضاة الشخصية فيصيبوا مرة ويخطئوا مرات... وخطؤهم هلكة لغيرهم. ولا يخفى علينا الآن أن مثل هذه الأفكار هي التي تَدِّعي استحداثها المدنية الغربية وتباهي بها ، بينما هي تقبع في بطون الكتب عندنا لا تجد من يلتفت إليها.
كتبـــــــــــــــــه:
أما أهم وأشهر كتب ابن المقفع على الإطلاق فهو كتاب "كليلة ودمنة" ، وهو مجموعة من الحكايات تدور على ألسنة الحيوانات يحكيها الفيلسوف بيدبا للملك دبشليم ، ويبث من خلالها ابن المقفع آراءه السياسية في المنهج القويم للحُكْم ، والمشهور أن ابن المقفع ترجم هذه الحكايات عن الفارسية ، وأنها هندية الأصل، لكن أبحاثًا كثيرة حديثة تؤكد أن كليلة ودمنة من تأليف ابن المقفع وليست مجرد ترجمة ، كما أن بعض هذه الأبحاث يعتقد أن الآراء التي أوردها ابن المقفع في كليلة ودمنة كانت أحد الأسباب المباشرة لنهايته الأليمة.
ومن كتب ابن المقفع الشهيرة كتاب "الأدب الكبير" الأدب الكبير أو الدرة اليتيمة كما يسميه عبارة عن كلمات مرتبة يدور أغلبها على موضوعين شغلا ابن المقفع طوال حياته وهما السلطان والولاة وما يتصل بهما من أنظمة حكم وتقاليد دولة وطرائق معاملات ، والثاني الصداقة والصديق حيث قدَّر ابن المقفع الصداقة تقديراً كبيراً ، وأولاها اهتماماً عظيماً لأن الأصدقاء على حد قوله هم عماد الحياة ومرآة النفس وتوائم الروح .
وكتاب الأدب الصغير فهو عبارة عن كلمات حكيمة في الأخلاق ، لا تسبر أغوار النفس ، ولا تغوص فيها ، ولا تحلل الخلق تحليلاً دقيقاً واسعاً مستوفى ولكنها عبارة عن جمل موجزة أشبه بالأمثال ، أو خطرات تولدت من تجارب صيغت في عبارات رقيقة رشيقة ، وليس ثمة رابط يربط بينها. شبهه أحمد أمين برجل يقرأ في كتب مختلفة ، وكلما وجد كلمة أعجبته دوَّنها ، لذلك ترى كلمة في محاسبة النفس ، وبجانبها كلمة في الصديق ، ثم كلمة في معاملة الناس بحسب طبقاتهم ، ثم في تعادي الرأي والهوى......
أسلوبـــــــه:
وتميز ابن المقفع بأسلوبه الرشيق السهل ؛ فقد كان رأيه أن البلاغة هي التي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يحسن مثلها ، وكان ينصح باختيار ما سهل من الألفاظ مع تجنب ألفاظ السَّفِلَة ، ويقول: "إن خير الأدب ما حصل لك ثمره وبان عليك أثره"وكان مع ذلك غزير المعاني ، دقيق الألفاظ ، يمعن في اختيار المعنى ، ثم يمعن في اختيار اللفظ ، وقد ذكر في " زهر الآداب" أنهم قالوا: " كان قلم ابن المقفع يقف ، فسئل عن ذلك ، فقال: إن الكلام يزدحم في صدري فيقف قلمي لتخيره . وقال محمد بن سلام في رسائل البلغاء:"سمعت مشايخنا يقولون: لم يكن للعرب بعد الصحابة أذكى من الخليل بن أحمد ولا أجمع ، ولا كان في العجم أذكى من ابن المقفع ولا أجمع".
وقال جعفر بن يحيى: " عبد الحميد أصل، وسهل بن هارون فرع، وابن المقفع ثمر، وأحمد بن يوسف زهر .
بقي لنا أن نعرف أن هذا العبقري قتل وهو في السادسة والثلاثين من عمره وأن كل هذا النتاج الرائع أُبدع في هذا العمر القصير مما يدل على سعة عقله، وعظم عبقريته، وتميز أدبه.
- مقتبس -